فصل: الإمام المفوه الحسين ابن النور على بن عبد الشكور الحنفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 الإمام المفوه من غذي بلبان الفضل وليدًا

وعد لبيد إذا قيس بفصاحته بلديًا من له في المعالي أرومة وفي مغارس الفضل جرثومة الحسين ابن النور على بن عبد الشكور الحنفي الطائفي الحريري الفقه والإنشاء ويعرف بالمتقي من أولاد الشيخ علي المتقي مبوب الجامع الصغير من أكبر أصحاب الشيخ السيد عبد الله ميرغني ولد بالطائف وبها نشأ وتكمل في الفنون العرفانية وتدرج في المواهب الإحسانية وأحبه السيد عبد الله وتعلق بأذياله وشرب من صفو الأوهام وأخذ بالحرمين عن عدة علماء كرام وشارك في العلوم ونافس في المنطوق والمفهوم إلا أنه غلب عليه التصوف وعرف منه ما فيه الكمال والتصرف وبينه وبين شيخنا العيدروس مودة أكيدة ومحبة عتيدة ومحاورات ومذاكرات وملاطفات ومصافاة وقد ورد علينا مصر في سنة 174 وسكن ببيت الشيخ محسن على الخليج وكان يأتيه السيد العيدروس والسيد مرتضى وغيرهم فأعاد روض الأنس نضيرًا وماء المصافاة نميرًا ودخل الشام وحلب وبها أخذ عن جماعة في أشياء منهم السيد اسمعيل امواهبي فقد عده من شيوخه وأثنى عليه ودخل بلاد الروم وأنعم بالمروم وعاد الى الحرمين وقوض عن الأسفار الخيام‏.‏

ولليسد العيدروس قصيدة بائية أرسلها له وهي بليغة مطولة وغير ذلك مطارحات كثيرة وللمترجم مؤلفات حسان وكلها على ذوق أهل العرفان منها المنظومة التي تعرف بالصلاتية عجيبة وشرحها مزجًا كأصلها على لسان القوم ولما حج الشيخ التاودي بن سودة كتبها عنه ووصل بها المغرب ونوه بشأنها حتى كتبت منها عدة نسخ ونوه بشأن صاحبها حتى عين له سلطان المغرب بصرة في كل سنة تصل إليه مع الركب والناس في المترجم مختلفون فمنهم من يصفه بالبراعة والكمال وأولئك الذين رأوا كلامه فبهرهم نظامه ومنهم من يصفه بالحلول عن ربقة الانقياد ويرميه بالحلول والاتحاد وهو إن شاء الله تعالى مبرأ مما نسب إليه ولما اجتمع به العلامة محمد بن يعقوب بن الفاضل الشمشاري ونزل في منزله فكان أنيسًا له في سائر أحواله قال اختبرته حق الاختبار فلم أجد له إلا لسانًا وهو مثار وبعد أشهر تبرم عن ملازمته واتخذ له حجرة في الحرم وعزل نفسه عنه فالتزم وحكى لي من أموره أشياء غريبة والمترجم معذور فإن ساداتنا المغاربة ليس لهم تحمل في سماع كلام مثل كلامه لأنهم ألفوا ظاهر الشريعة ولم يدخل على أذهانهم نوادر أهل العرفان ولا تسوروا حصونها المنيعة ولأهل الروم فيه اعتقاد جميل ومواهبهم تصل إليه في كل قليل وكان له ولد يسمى جعفرًا ورد علينا مصر في سنة خمس وثمانين وأقام معنا برهة يغدو إلينا ويبيت ويروح لزيارة بعض أحباب أبيه بمصر ويذهب معنا لبعض المنتزهات إذ ذاك ولم يزل حتى اخترمته المنية سامحه الله ولم يخلف بعده مثله‏.‏

استهل المحرم بيوم الخميس والأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم وخراب البلاد وشتات أهلها وانتشارهم بالمدينة حتى ملؤوا الأسواق والأزقة رجالًا ونساء وأطفالًا يبكون ويصيحون ليلًا ونهارًا من الجوع ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع وفيه أيضًا هبط النيل قبل الصليب بعشرة أيام وكان ناقصًا عن ميعاد الري نحو ذراعين فارتجت الأحوال وانقطعت الآمال وكان الناس ينتظرون الفرج بزيادة النيل فلما نقص انقطع أملهم واشتد كربهم وارتفعت الغلال من السواحل والعرصات وغلت أسعارها عما كانت وبلغ الأردب ثمانية عشر ريالًا والشعير بخمسة عشر ريالًا والفول بثلاثة عشر ريالًا وكذلك باقي الحبوب وصارت الأوقية من الخبز بنصف فضة ثم اشتد الحال حتى بيع ربع الويبة بريال وآل الأمر الى أن صار الناس يفتشون على الغلة فلا يجدونها ولم يبق للناس شغل ولا حكاية ولا سمر بالليل والنهار في مجالس الأعيان وغيرهم إلا مذاكرة القمح والفول والأكل ونحو ذلك وشحت النفوس واحتجب المساتير وكثر الصياح والعويل ليلًا ونهارًا فلا تكاد تقع الأرجل إلا على خلائق مطروحين بالأزقة وإذا وقع حمار أو فرس تزاحموا عليه وأكلوه نيًا ولو كان منتنًا حتى صاروا يأكلون الأطفال ولما انكشف الماء وزرع الناس البرسيم ونبت أكلته الدودة وكذلك الغلة فقلب أصحاب المقدرة الأرض وحرثوها وسقوها بالماء من السواقي والنطالات والشواديف واشتروا لها التقاوي بأقصى القيم وزرعوها فأكله الدود أيضًا ولم ينزل من السماء قطرة ولا أندية ولا صقيع بل كان في أوائل كيهلك شرودات وأهوية حارة ثقيلة ولم يبق بالأرياف إلاالقليل من الفلاحين وعمهم الموت والجلاء‏.‏

وفي أواخر شهر ربيع الأول حضر صالح آغا من الديار الرومية وعلى يده مرسومات بالعفو وثلاث خلع إحداها للباشا والأخريان لابراهيم بك ومراد بك فاجتمعوا بالديوان وقرأوا المرسومات وضربوا مدافع وأحضر صحبته صالح آغا وكالة دار السعادة وانتزعها من مصطفى آغا واستولى على ملابلها‏.‏

وفيه وصلت غلال رومية وكثرت بالساحل فحصل للناس اطمئنان وسكون ووافق ذلك حصاد الذرة فنزل السعر الى أربعة عشر ريالًا الأردب وأما التبن فلا يكاد يوجد وإذا وجد منه شيء فلا يقدر من يشتريه على إيصاله لداره أو دابته بل يبادر لخطفه السواس وأتباع الأجناد في الطريق وإذا سمعوا واستشعروا بشيء منه في مكان كبسوا عليه وأخذوه قهرًا فكان غالب مؤونة الدواب قصب الذرة الناشف ويشرح الكثير من الفقراء والشحاذين في نواحي الجسور فيجمعون ما يمكنهم جمعه من الحشيش اليابس والنجيل الناشف ويأتون به ويطوفون به في الأسواق ويبيعونه بأغلى الأثمان ويتضارب على شرائه الناس وإن صادفهم السواس والقواسة وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك الدفتردار لما سافر من القصير طلع على المويلح وركب من هناك مع العرب الى غزة وأرسل سرًا الى مصر وطلب رجلًا نصرانيًا من أتباعه فذهب إليه صحبة الهجان بمطلوبات وبعض احتياجات ولما وصل الى جهة غزة أرسل الى أحمد باشا الجزار يعلمه بوصوله فأرسل لملاقاته خيلًا ورجالًا فذهب إليه وصحبته نحو الثلاثين نفرًا لا غير فلما وصل الى قرب عكا خرج إليه أحمد باشا ولاقاه ووجهه الى حيفا ورتب لهم بها رواتب وأما مراد بك فإنه خرج الى بر الجيزة من أول السنة وجلس في قصر اسمعيل بك الذي عمره هناك واشتغل بعمل جبخانة وآلات حرب وبارود وجلل وقنابر وطلب الصناع والحدادين وشرع في إنشاء مراكب وغلايين رومية وزاد في بناء القصر ووسعه وأنشأ به بستانًا عظيمًا وغير ذلك وسافر عثمان بك الشرقاوي الى ثغر الاسكندرية وجبى الأموال في طريقه من البلاد‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشرين ربيع الآخر وخامس كيهك القبطي أمطرت السماء مطرًا متوسطًا وفرح به الناس‏.‏

وفي يوم السبت غرة جمادى الأولى عدى مراد بك من بر الجيزة فدخل الى بيته وأخبروا عن عثمان بك الشرقاوي أنه رجع الى رشيد ثم في رابعه حضر المذكور الى مصر وفي ليلة الخميس خرج مراد بك وابراهيم بك وباقي أمرائهم الى جهة العادلية فأقاموا أيامًا قليلة ثم ذهب مراد بك الى ناية أبو زعبل وكذلك ابرهيم بك الوالي وصحبته جماعة من الأمراء الى ناحية الجزيرة في وقت خروجهم نهب أتباعهم ما صادفوه من الدواب وصاروا يكبسون الوكائل التي بباب الشعرية ويأخذون ما يجدونه من جمال الفلاحين السفارة وحميرهم نهبًا فأما مراد بك فإنه لما وصل الى أبو زعبل وجد هناك طائفة من عرب الصوالحة في خيشهم لا جنية لهم فنهبهم وأخذ أغناهم ومواشيهم وقتل منهم نحو خمسة وعشرين شخصًا ما بين غلمان وشيوخ وأقام هناك يومًا وقبض على مشايخ البلد أبي زعبل وحبسهم وقرر عليهم غرامة أحد عشر ألف ريال ولم يقبل فيهم شفاعة أستاذهم وشتمه وضربه بالعصا وأما عرب الجزيرة فإنهم ارتحلوا من أماكنهم‏.‏

وفي شهر شعبان وقع الاهتمام بسد خليج الفرعونية بسبب احتراق البحر الشرقي ونضوب مائه وظهرت بالنيل كيمان رمل هايلة من حد المقياس الى البحر المالح وصار البحر الغربي سلسلو جدول تخوضه الأولاد الصغار ولا يمر به إلا صغار القوارب وانقطع الجالب من جميع النواحي إلا ما تحمله المراكب الصغار بأضعاف الأجرة وتعطلت دواوين المكوس فأرسلوا الى سد الترعة رجلًا مسلماني وصحبته جماعة من الإفرنج وأحضروا الأخشاب العظيمة ورتبوا عمل السد قريبًا من كفر الخضرة وركبوا آلات في المراكب ودقوا ثلاث صفوف خوابير من أخشاب طوال فلما أتموا ذلك كانت اصناع فرغت من تطبيق ألواح في غاية الثخن شبه البوابات العظام وهي مسمرة بمسامير عظيمة ملحومة بالرصاص وصفائح الحديد مثقوبة بثقوب مقاسة على ما يوازيها من نجوش منجوشة بالخوابير المركوزة في الماء فإذا نزلوا ببوابة ألحموها بتلك الخوابير وتبعتهم الرجال بالجوابي المملوءة بالحصا والرمل من أمام ومن خلف وتبع ذلك الرجال الكثرة بغلقان الأتربة والطين ففعلوا ذلك حتى قارب التمام ولم يبق إلا اليسير ثم حصل الفتور في العمل بسبب أن المبرش على ذلك أرسل لمراد بك بالحضور وليكون إتمامها بحضرته ويخلع عليه ويعطيه ما وعده به من الأنعام فلم يحضر مراد بك وغلبهم الماء وتلف جانب من العمل وكان أيوب بك الصغير حاضرًا وفي نفسه أن لا يتم ذلك لأجل بلاده فأصبح مرتحلًا وتركوا العمل وانفض الجمع وقد أقام العمل في ذلك من أوائل شعبان الى أواسط شوال ثم نزل إليها جماعة آخرون وطبوا جملة مراكب موسوقة بالأحجار وشرعوا في عمل سد المكان القديم عن فم الترعة ودقوا أيضًا خوابير كثيرة وألقوا أحجارًا عظيمة وفرغت الأحجار فأرسلوا بطلب غيرها فلم تسعفهم القطاعون فشرعوا في هدم الأبنية القديمة والجوامع التي بساحل النيل وقلعوا أحجار الطواحين التي بالبلاد القريبة من العمل واستمروا على ذلك حتى قويت الزيادة ولم يتم العمل ورجعوا كالأول وذهب في ذلك من الأموال والغرامات والسخرات وتلف من المراكب والأخشاب وفي أوائل شوال ورد الخبر بأن علي بك سافر من عند أحمد باشا الى اسلامبول صحبة قبجي معين فلما قرب من اسلامبول أرسلوا من وجهه الى برصا ليقيم بها ورتبوا له كفايته في كل شهر خمسمائة قرش رومي‏.‏

من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات السيد الإمام العارف القطب عفيف الدين أبو السيادة عبد الله ابن ابراهيم بن حسن بن محمد أمين بن علي ميرغني بن حسن بن مير خورد ابن حيدر بن حسن بن عبد الله بن علي بن حسن بن أحمد بن علي بن ابراهيم ابن يحيى بن عيسى بن أبي بكر بن علي بن محمد بن اسمعيل ابن ميرخورد البخاري بن عمر بن علي بن عثمان بن علي المتقي بن الحسن بن علي الهادي ابن محمد الجواد الحسيني المتقي المكي الطائفي الحنفي الملقب بالمحجوب ولد بمكة وبها نشأ وحضر في مباديه دروس بعض علمائها كالشيخ النخلي وغيره واجتمع بقطب زمانه السيد يوسف المهدلي وكان إذ ذاك أوحد عصره في المعارف فانتسب إليه ولازمه حتى رقاه وبعد وفاته جذبته عناية الحق وأرته من المقامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فحينئذ انقطعت الوسايط وسقطت الوسائل فكان أويسيًا تلقيه من حضرة جده صلى الله عليه وسلم كما أشار الى ذلك شيخنا السيد مرتضى عندما اجتمع به بمكة في سنة 1163 وأطلعه على نسبه الشريف وأخرجه إليه من صندوق قال‏:‏ وطلبت منه الإجازة وإسناد كتب الحديث فقال‏:‏ غنى عنه‏:‏ قال فعلمت أنه أويسي المقام ومدده من جده عليه الصلاة والسلام وانتقل الى الطائف بأهله وعياله في سنة ست وستين وشرف تلك المشاهد ومآثر شهيرة ومفاخرة كثيرة وكراماته كالشمس في كبد السماء وكالبدر في غيهب الظلماء وأحواله في احتجابه عن الناس مشهورة وأخباره في زهده عن الدنيا على ألسنة الناس مذكورة ومن مؤلفاته كتاب فرائض وواجبات الإسلام لعامة المؤمنين والكوكب الثاقب وشرحه وسماه رفع الحاجب عن الكوكب الثاقب وله ديوانان متضمنان لشعره أحدهما المسمى بالعقد المنظم على حروف المعجم والثاني عقد الجواهر في نظم المفاخر ومنها المعجم الوجيز في أحاديث النبي العزيز صلى الله عليه وسلم اختصره من الجامع وذيله وكنوز الحقائق والبدر المنير وهو في أربعة كراريس وقد شرحه العلامة سيدي محمد الجوهري وقرأه دروسًا ومنها شرح صيغة القطب بن مشيش ممزوجًا وهو من غرائب الكلام ومنها مشارق الأنوار في الصلاة والسلام على النبي المختار توفي رضي الله عنه في هذه السنة‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن يوسف الشنواني المصري الشافعي المكنى بأبي العز المكتب الخطاط ويعرف أيضًا بحجاج وأمه الشريفة خاصكية ابنة القاضي جلبي بن أحمد العراقي من ذرية القطب شهاب الدين العراقي دفين شنوان الغرف بالمنوفية حفظ القرآن وجوده على الشيخ أحمد بن اسمعيل الأفقم ومهر فيه وأجيز فنسخ بيده كثيرًا من المصاحف ونسخ الدلائل والكتب الكبار منها الإحياء للغزالي والأمثال للميداني وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة وفي غضون ذلك تردد على جملة من الشيوخ كالشهابين الملوي والجوهري وأخذ عنهما أشياء والشمس الحفني والشيخ حسن المدابغي ومحمد بن النعمان الطائي في آخرين وأحبوه وجاور بالحرم سنة ثم عاد الى مصر ولازم معنا كثيرًا على شيخنا السيد مرتضى في حضور الحديث فسمع البخاري بطرفيه ومسلمًا بطرفيه وسنن أبي داود الى قريب ثلثيه وغالب الشمائل للترمذي وثلاثيات البخاري وثلاثيات الدارمي والحلية لأبي نعيم من أوله الى مناقب العشرة وأجزاء كثيرة بحدودها في ضمن إجازته بأسانيدها وكان نعم الرجل صحبة وديانة وحفظًا للنوادر من الأشعار والحكايات وأصيب المترجم بكريمتيه عوضه الله دار الثواب من غير سابقة عذاب ولا عتاب توفي في سابع عشرين جمادى الأولى من السنة‏.‏

ومات الإمام الفقيه المحدث البارع المتبحر عالم المغرب الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطالب بن سودة المري الفاسي التاودي ولد بفاس سنة 1128 وأخذ عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الناصري شارح الاكتفاء والشفاء ولامية الزقاق وغيرها والشهاب أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي قرأ عليهما الموطا وغيره والشهاب أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي قرأ عليه المنطق والكلام والبيان والأصول والتفسير والحديث وكان في أكثرها هو القارئ بين يديه مدة مديدة وأذن له في إقراء الصحيح في حياته فألقى دروسًا بين يديه وكان يوده ويسر به ويقدمه على سائر الطلبة ولما توفي ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائة وألف بالطاعون تزاحم ذو الوجاهات فيمن يلحده في قبره فكان الشيخ هو المتولي لذلك دون غيره وتلك كرامة له ورضوا بذلك قال‏:‏ وكلمته يومًا في شأن الحج متمنيًا له ذلك فقال لي مشيرًا الى شيخه سيدي عبد العزيز الدباغ إن الناس قالوا لي جعلناك في حق فلا تخرج من هذه البلدة وأنت ستحج وأعطيك ألف دينار وألف مثقال إن شاء الله تعالى قال‏:‏ ولم تك نفسي تحدثني بالحج يومئذ ولم يخطر ببال ومنهم الفقيه المتواضع صاحب التآليف أبو عبد الله محمد ابن قاسم جسوس لازمه مدة وقرأ عليه كتبًا منها رسالة بن أبي زيد ومختصر خليل ثلاث ختمات مع مطالعة شروح وحواش والحكم والشمائل وجميع الصحيح من غير فوت شيء منه ومنهم حافظ المذهب الفقيه القاضي أبو البقاء يعيش بن الزغاوي الشاوي قرأ عليه رجز بن عاصم ولامية الزقاق وطرفًا من الصحيح توفي سنة 1150 كان منزله بالدوخ في أطراف المدينة فنزل به اللصوص ليلًا فدافع عن حريمه وقاتلهم حتى قتل شهيدًا رحمه الله ومنهم قاضي الجماعة ومفتي الإمام أبو العباس أحمد بن أحمد الشدادي الحسني قرأ عليه المختصر الخليلي من أوله الى الوديعة أو العارية وسمع عليه بعض التفسير من أوله ومنهم الفقيه الزاهد القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد التماق قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد والحكم والتفسير من أوله الى سورة النساء ومنهم الإمام الناسك الزاهد أبو عبد الله محمد بن جلون قرأ عليه الآجرومية وختم عليه الألفية مرتين والمختصر الخليلي من أوله الى اليمين ولم يكن له نظير في الضبط والإتقان والتحرير وهو أول شيخ أخذ عليه وذلك قبل البلوغ وكان إذا قام من دروسه عرض على نفسه ما قاله فيجده لا يدع منه حرفًا واحدًا ومنهم سيبويه زمانه أبو عبد الله سيدي محمد ابن الحسن الجندوز قرأ عليه الألفية فكان يملي من حفظه في أثنائه الشروح والحواشي وشروح الكافية والتسهيل والرضى والمعنى والشواهد وغير ذلك مما يستجاد ويستغرب وقرأ عليه السلم والتلخيص ومن إنصافه أنه لما قرب أواخره بلغه أن الشيخ بن مبارك يريد أن يقرأه فقام مع جماعة وذهب إليه ليسمع منه وهذا من حسن إنصافه واعترافه بالحق ومنهم أبو العباس أحمد بن علال الوجاري قرأ عليه الألفية بلفظه ثلاث مرات وشيئًا من التسهيل والمغني وقد ذكر له بعض الشيوخ عن ابن هشام أنه قرأ الألفية ألف مرة فقال له بعض من سمعه‏:‏ وكم قرأتها قال‏:‏ أما المائة فجزتها فهؤلاء عشرة شيوخ كذا لخصتها من إجازة المترجم للشيخ أحمد ابن علي بن عبد الوهاب بن الحاج الفاسي في تاسع جمادى الثانية سنة ثلاث وألف وحج المترجم فقدم مصر سنة إحدى وثمانين ورجع سنة 1182 وعقد درسًا حافلًا بالجامع الأزهر برواق المغاربة فقرأ الموطأ بتمامه وحضره غالب الموجودين من العلماء وأجاد في تقريره وأفاد وسمع عليه الكثير أوائل الكتب الستة والشمائل والحكم وغيرها وأجاز ولقي بمكة أبا زيد عبد الرحمن بن أسلم اليمني وأبا محمد حسين بن عبد الشكور صاحب الشيخ عبد الله الميرغني والشيخ ابراهيم الزمزمي وغيرهم وبالمدينة أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم السمان وأبا الحسن السندي وعبد الله جعفر الهندي وغيرهم وأجازوه وأجازهم وعاد الى مصر واجتمع بفاضلها كالجوهري والصعيدي وحسن الجبرتي والطحلاوي والسيد العيدروس والشيخ محمود الكردي وعيسى البراوي والبيومي والعربان وعطية الأجهوري وكان صحبته ولداه سيدي محمد وهو الأكبر وسيدي أبو بكر خالي العذار جميل الصورة وتردد على الشيخ الوالد كثيرًا وتلقى عنه بعض الرياضيات وترك عنده ولديه المذكورين مدة إقامته بمصر فكنا نطالع معهما سوية صحبة الشيخ سالم القيرواني والشيخ أحمد السوسي ونسهر غالب الليل نراعي المطالع والمغارب وممرات الكواكب بالسطح حذاء خيط المساترة ونراجع الشيخ فيما يشكل علينا فهمه وهو معنا في ناحية أخرى وأوقفت سيدي أبا بكر على طريق رسم ربع الدائرة المقنطر والمجيب توفي سيدي محمد بفاس سنة 1192 ومن تآليف المترجم حاشية قوله وأرخه الى آخره ابتداء التاريخ من الزاي الى زج مع حساب السنين بثلاثمائة على قاعدة المغاربة إلا أنه يزيد واحدًا عن سنة الوفاة فلعله مات سنة أربع وتسعين ومائة وألف كما يظهر ذلك بحساب التاريخ على البخاري في أربع مجلدات وحاشية على الزرقاني شارع خليل وشرحان على الأربعين النووية ومناسك حج وشرح الجامع لسيدي خليل وشرح تحفة بن عاصم في القضاء والأحكام والمنحة الثابتة في الصلاة الفائتة وفتح المتعال فيما ينتظم منه بيت المال وحاشية على بن جزي المفسر وحاشية على البيضاوي لم تكمل وشرح المشارق للصاغاني ومنظومة فيما يختص بالنساء وكلفه سلطان المغرب خطة القضاء في سنة 1203 فقبلها كرهًا وكانت فتاويه مسددة وأحكامه مؤيدة مع غاية التحرز والصيانة والإتقان وبالجملة فكان عين الأعيان في عصره ومصره شهير الذكر وافر الحرمة مهيب الصورة يغلب جلاله على جماله قليل التبسم ولما توفي مولاي محمد سلطان المغرب ووقع الاختلاف والاضطراب بين أولاده اجتمع الخاصة والعامة على رأي المترجم فاختار المولى سليمان وبايعه على الأمر بشرط السير على الخلافة الشرعية والسنن المحمدية وبايعه الكافة بعده على ذلك وعلى نصرة الدين وترك البدع والمظالم والمكوس والمحارم وكان كذلك ولم يزل المترجم على طريقته الحميدة حتى توفي في هذه السنة وتوفي بعده ابنه سيدي أبو بكر في سنة عشر ومائتين وألف ومات الإمام العلامة والوجيه الفهامة الشيخ أحمد بن محمد بن جاد الله ابن محمد الخناني المالكي البرهاني وجده الأخير يعرف بأبي شوشة وله مقام يزار بأم خنان بالجيزة نشأ في طلب العلم وحضر أشياخ الوقت ولازم السيد البليدي وصار معيدًا لدروسه بالأزهر والأشرفية وانتفع بملازمته له انتفاعًا كليًا وانتسب إليه وأجازه إجازة مطولة بخطه ونوه بشأنه فلما توفي شيخه المذكور تصدر لإقراء الحديث مكانه بالمشهد الحسيني واجتمع عليه الناس وحضره من كان ملازمًا لحضور شيخه من تجار المغاربة وغيرهم واعتقدوا صلاحه وتحبب إليهم وواسوه بالصلاة والزكوات والنذور وواظب الإقراء بالأزهر أيضًا وزيارة مشاهد الأولياء وإحياء لياليها بقراءة القرآن والذكر ويقوم‏:‏ دائمًا من الثلث الأخير من الليل ويذهب الى المشهد الحسيني ويصلي الصبح بغلس في جماعة وزاد اعتقاد الناس فيه واتسعت دنياه مع المداومة على استجلابها وإمساكها وبآخره اشترى دارًا عظيمة بحارة كنامة المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الأزهر وانتقل إليها وسكنها وكان يخرج لزيارة قبور المجاورين في كل يوم جمعة قبل الشمس فنزل العرب في بعض الجمع الى بين الكيان فأراد الهروب وكان جسيمًا فسقط من على بغلته على خربته فانكسر زره وحمل الى داره وعالج نفسه شهورًا حتى عوفي قليلًا ولم يزل تعاوده الأمراض حتى توفي رحمه الله وما رأيته قط إلا وهو يتلو قرآنًا أو يطالع كتابًا سامحه الله تعالى‏.‏

ومات الإمام الفاضل الصالح النجيب المفوه الناجح الشيخ محمد ابن أحمد بن خضر الخربتاوي المالكي الأزهري قرأ على والده وحضر دروس شيخنا الشيخ علي العدوي الصعيدي وبه تخرج وأنجب في العلوم وله سليقة جيدة في النثر والنظم وحصل كتبًا نفيسة المقدار زيادة على الذي ورثه من والده وله محبة في آل البيت ومدائح كثيرة وهو ممن قرظ على شرح القاموس لشيخنا السيد محمد مرتضى تقريظًا بديعًا ولم يزل المترجم مقبلًا على شأنه مواظبًا على دروسه حتى توفي في هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومات الأجل الصالح الناسك المسلك العارف الشيخ محمد بن عبد الحافظ أفندي أبو ذاكر الخلوتي الحنفي أخذ الطريق عن السيد مصطفى البكري والشيخ الحفني وحضر الفقه على العلامة الشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الحماقي وأدرك الإسقاطي والمنصوري ولم يتزوج قط وكف بصره سنة 1181 وانقطع في بيته إحدى وعشرين سنة بمفرده وليس عنده قريب ولا غريب ولا جارية ولا عبد ولا من يخدمه في شيء مطلقًا وبيته متسع جهة التبانة وبابه مفتوح دائمًا وعنده الأغنام والدجاج والإوز والبط والجميع مطلوقون في الحوش وهو يباشر علفهم وإطعامهم وسقيهم الماء بنفسه ويطبخ طعامه بنفسه وكذلك يغسل ثيابه واشتهر في الناس بأن الجن تخدمه وليس ببعيد لأنه كان من أهل المعارف والأسرار ويأتي إليه الكثير من الطلبة للأخذ عنه والتلقي منه وكان له يد طولى في كل شيء ومشاركة جيدة في العلوم والمعارف والأسماء والروحانيات والأوفاق واستحضار تام في كل ما يسأل عنه وعنده عدة كثيرة من السنانير ويعرفها بالواحدة بأسمائها وأنسابها وألوانها ويقول هذه تحفة بنت بستانة وهذه كمونة بنت ياسمين وهذه فلانة أخت فلانة الى غير ذلك توفي رحمه الله تعالى في شهر شوال من هذه السنة‏.‏

ومات الإمام العلامة والرحلة الفهامة المعمر المتقدم الشيخ مصطفى المرحومي الشافعي ولد بمحلة المرحوم بالمنوفية وقرأ القرآن وحفظه وجوده وحضر الى مصر المتون وتفقه على الأشياخ المتقدمين كالدفري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والملوي والحفني وغيرهم ومهر في المعقول والمنقول وأملى الدروس بالأزهر وجامع أزبك وانتفع به الناس وكان يتردد الى بيوت بعض الأعيان ويحبونه ويكرمونه ويستفيدون من فوائده ونوادره وكان له حافظة واستحضار للمناسبات والأشعار واللطائف لا يمل حديثه ومفاكهته توفي في هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومات الإمام العلامة الفقيه النحوي الأصولي الجدلي النحرير الفصيح المتقن المتفنن الشيخ علي الشهير بالطحان الأزهري المصري حضر شيوخ العصر ولازم الشيخ الملوي والجوهري وكان معيد الدروس الأخير وبه تخرج وكان يقرأ الكتب ويقرر الدروس بدون مطالعة إلا أنه كان يغلب عليه الملل والسآمة وحب البطالة غالب أيامه ولا يتعفف عن الدنيا من أي وجه كان ويطلبها وإن قلت وكانت سليقته جيدة في النثر والنظم وله منظومة في الفقه ومنظومة في المنطق ومنظومتان في التوحيد كبرى وصغرى ومنظومة في العروض ومنظومة في البيان ومنظومة في الطب وله لاميتان على محاكاة لأمية بن الوردي كبرى الملوي على السمرقندية توفي في أواخر شعبان من السنة‏.‏

ومات الإمام العلامة النبيه الوجيه الفاضل المستعد الشيخ يوسف ابن عبد الله بن منصور الينبلاويني الشهير برزه الشافعي تفقه على بلدية الشيخ أحمد رزة وحضر دروس الشيخ الحفني والشيخ البراوي والشيخ عطية والشيخ الصعيدي وغيرهم من الأشياخ وأنجب ودرس وأفاد ولازم الإقراء وكان إنسانًا وجيهًا وحتشمًا ساكن الجأش وقورًا بهي الشكل قانعًا بحاله لا يتداخل كغيره في أمور الدنيا مجمل الملابس لا يزيد على ركوب الحمار في بعض الأحيان لبعض الأمور الضرورية ولم يزل حتى تعلل وتوفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات العلامة المفيد المفوه المجيد الشيخ عبد الرحمن بن علي بن الإمام العلامة عبد الرؤوف البشبيشي نشأ في حجر والده وحفظ القرآن وحضر الأشياخ وتفقه في مذهب أبيه وجده وهم شافعيون واجتمع بالشيخ الوالد ولازمه ملازمة كلية وحضر عليه في مذهب أبي حنيفة وحفظ كثيرًا من الفروع الغريبة في المذهب والرياضيات وأقرأني في حال الصغر شيئًا من القرآن وحروف الهجاء وكان به بعض رعوته فانتقل الى مذهب أبي حنيفة وأخبر الوالد بذلك يظن سروره في انتقاله فلامه على فعله وانحط قدره عنده من ذلك الوقت وذلك بعد موت والده في سنة 187 وأملق حاله وتكدر باله وسافر بآخره الى دمياط وأقام بها مدة يفتي على مذهب الحنفية وراج أمره هناك لشغور الثغر عن مثله ثم قدم مصر لأمر عرض له فأقام بمصر وأراد بيع داره ليصرف ثمنها في شؤونه فلم يجد من يشتريها بالثمن المرغوب وكان إنسانًا حسنًا يذاكر بفوائد مع حسن المعرفة وصحة الذهن وربما تعلق ببعض فنون غريبة ولذا قل حظه رحمه الله في هذه السنة وحيدًا في داره وهو جالس‏.‏ ومات